الى دولة القانون دُرّ
June 05, 2019
Back
  • الى دولة القانون دُرّ

لقد بلغ الوضع في لبنان، البلد الذي يتغنى بالديمقراطية ودولة القانون، حدا لم يعد بالامكان التغاضي عنه واعتبار ما يحصل، نحن المحامين، وكأنه لا يعنينا. ان تتبع سلوك رجال السياسة في لبنان في السنوات الاخيرة ينبئ بلا ريب تعمدهم بلا كلل لتقويض استقلالية السلطة القضائية و"كسر" شوكة القضاة، لا سيما لجهة اقرار قوانين تتعلق بهذه السلطة ودون حتى الرجوع اليها، وكل ذلك يدخل في اطار ضرب دولة القانون لا بل القضاء عليها.

 

ان مسار تقويض السلطة القضائية ليس حديث العهد، ولم يبدأ مع ما شهدناه مؤخرا لجهة اقدام السلطة السياسية على التهجم على القضاء واعتباره مكسر عصا من جهة ثم اقتطاع بعض مصادر تمويل صندوق تعاضد القضاة وتخفيض مساعدة الدولة السنوية لهذا الصندوق، وكلنا يعلم الواقعة التي حدثت في العام 2017 اثناء انعقاد جلسة تشريعية لمجلس النواب، بان تم سحب مشروع قانون يقضي بتعديل المادة 5 من قانون القضاء العدلي التي تنص على اعطاء مجلس القضاء الاعلى الكلمة الفصل في اقرار المناقلات القضائية دون توقيع وزير العدل. وهذا الامر فيما لو تمّ، كان من شأنه ان يحرر السلطة القضائية من تحكم السلطة التنفيذية ومن وزير العدل التابع بدوره لها، ويؤدي بطبيعة الحال الى استقلالية السلطة القضائية عبر اطلاق يد مجلس القضاء الاعلى في اجراء التشكيلات القضائية بحرية واستقلالية تامة، وايضا نشر المرسوم.  

 

فالمطلوب هو اعادة اقرار المادة 5 المعدلة المذكورة بحيث تتمتع السلطة القضائية باستقلالية تامة في عملها، فلا يمكن وعلى ضؤ ما يشهده البلد من تفشي لظاهرة الفساد، قبول تدخل اي شخص – ومهما علا شأنه- في عمل السلطة القضائية وفي تشكيلاتها ومناقلاته، وفي اختيار رؤساهم ايضا، ومن باب اولى عدم المس بمكتسباتها التي تحققت على مر هذه السنوات، وبدلا من ذلك العمل على تعزيز وتحسين ادائها من خلال تحسين ظروف عملها في قصور العدل، وجميعنا يعلم الاهمال الفاضح وغير المبرر الذي تعاني منها قصور العدل في لبنان وعدم مبادرة الدولة بصورة جدية وفعالة لمعالجة هذا الوضع المذري. ان قصور العدل يجب ان تلقى الاهتمام الذي تلقاه مقرات السلطتين التنفيذية والتشريعية، من حيث الانفاق عليها وصيانتها (...)

 

ان محاربة الفساد في ادارات الدولة، وهو الشعار الذي ترفعه كل حكومة في بيانها الوزاري، لا يمكن ان يتحقق بعيدا عن اعادة اقرار التعديل الوارد في المادة 5 من قانون القضاء العدلي المذكورة، وهذا الامر من شأنه ان "ينقي" السلطة القضائية من داخلها، وابعاد القاضي الفاسد والمرتهن لرجال السياسة والمنفذ لأوامرها، اذ انهم اي القضاة هم ادرى بمشاكل بيتهم الداخلي ويستطيعون اختيار القاضي المناسب لتسلم الموقع ولاستمراره فيه بعيدا عن المحسوبيات وحسابات السلطة السياسة في التعيينات.

 

 ان اقرار السلطة القضائية المستقلة هو الذي يبني دولة القانون، ويشكل الضمانة لمكافحة الفساد واحقاق الحق، وجذب الاستثمارات.       

 

ومن مظاهر سلوك السلطة السياسية لتقويض السلطة القضائية ايضا، هو تعمدها ادخال الفساد اليها وترسيخه، وقد نجحت في ذلك الى حد بعيد.  

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                            فمن خلال ممارستي العملية اليومية كمحام لاكثر من أربعين سنة،  اتيح لي المجال لمعرفة الخلل والاسباب الحقيقية التي اودت بنا الى الوضع المذري الذي وصلنا اليه. فعلى سبيل المثال ليس الا، ان مجرد شيوع خبر نية السلطة التنفيذية باجراء تعيينات قضائية في مواقع عليا، هنا تبدأ "الفاجعة" حيث يصبح الساسة مقصدا و"حجا" من قبل عدد لا بأس به من القضاة الطامحين لتولي احد هذه المراكز، والغريب في الامر ان هذه التعيينات اصبحت في السنوات الاخيرة تتم بتزكية من السلطات الدينية ايضا. وبالنتيجة يكون الاختيار في هذه الحالة ليس على اساس الكفاءة والجدارة ونظافة الكف، وانما استنادا الى معيار التبعية للمرجع السياسي الذي عيّن القاضي في منصبه، ويمكنكم تصور تبعات هكذا تعيين على استقلالية القاضي المعين وعلى صوابية وقانونية قراراته التي تتأثر في الغالب بتعليمات من هذه المرجعية. ومن النادر ان يعمد هذا القاضي الى رفض الاملاءات عليه، والا سيلقى مصير قاضي آخر جرت معاقبته وابعاده لمجرد انه "سار عكس التيار"، وهؤلاء القضاة الذين نحترمهم اصبحوا معروفين للجميع.    

 

هذا في حين انه لو كانت السلطة القضائية المستقلة هي من تضع المناقلات، فانني متأكد ان هذا التعيين كان سيتم وفق احكام القانون ومع الاخذ بعين لاعتبار مسيرة القاضي في السلك، وتدرجه، وامور اخرى ينص عليها القانون.

 

فلو اقرت استقلالية القضاء، وهذا امر اكثر اهمية من الاحتفال بيوبيل المئة سنة لمحكمة التمييز، يمكن ان نصدق ان السلطة السياسية، ودون تمييز او استثناء لاحد، جدية ببناء دولة القانون وبتحقيق استقلال القضاء، ولا يكفي مجرد شعارات خاوية وقد ثبت من خلال الممارسات والمشاهدات اليومية جنوح هذه السلطة الى خلاف ذلك تماما.

 

ان المطلوب من هذا العهد، وما يمثله، وخوفا من سقوطه او فشله، ان يعمد اولا وقبل اي شيء آخر الى انجاز ما يلي:

 

 

الى ساسة لبنان نقول، اطلقوا حرية القضاء واستقلاليته، وهذا كفيل بمكافحة الفساد وبانتشال البلد من ازمته المالية والاقتصادية التي تسببتم انتم فيها. ان استقلالية السلطة القضائية هي الاساس للاصلاح ولنهوض البلد وهي كفيلة بإعادة الأموال العامة المسلوبة.  

 

الى نقابتي المحامين في بيروت وطرابلس نقول ادعموا القضاة الشرفاء في اعتكافهم فان ما يطالبوا به هو لضمان اعمال العدالة غير المسيّسة  وهو يرمي للمحافظة على الديموقراطية والحرية والعدالة ، وهي في صلب مهنة المحاماة ولا تصغوا الى الوعود لانهم جزء من هذه السلطة السياسية التي تريد القضاء على القضاة الشرفاء واسكات أصواتهم، وضرب مشروعهم الناهض للوطن من افلاسه.   

 

الى زملائي المحامين، الذين يعانون من نتائج تعطيل المحاكم بسبب اعتكاف القضاة الشرفاء، أقول لهم انضموا اليهم  لا تخافوا فنحن المحامين مناضلون ، مكافحون، لأننا بقضاء مستقل نحافظ على حقوق موكلينا ودونه نستمر نتباكى ونشتكي من احكام مسيّسة او غير علمية  ونستمر في المعاناة من تصرف السياسيين وتأثيرهم على القضاة.

 

والى قضاة لبنان نقول، ان التغيير يجب ان يكون قرار نابع من ذاتكم، وقد تعلمنا ان الاستقلال لا يمنح وانما ينتزع بالقوة، فلا تراهنوا على السلطة السياسية ان تعطيكم ما دأبت منذ سنوات على حرمانكم منه، وخوفا منكم ، يجب ان يكون قرار التعيين قرارا نابعا من ذاتكم، وان تلفظوا اوامر السلطة السياسية. فانتم النخبة في البلد وانتم من يجب ان تُتبعوا وليس العكس، وان تكونوا قدوة للشعب وشعلة التغيير.

 

  المحامي رمزي هيكل